برز قرن الفتنة التي أدت إلى مقتل الإمام الشهيد عثمان بن عفان، ثم مقتل الإمام الحسين رضي الله عنهما.
وظهرت الفرق المنحرفة، وراح المبتدعة يبحثون عن مستندات من النصوص يعتمدون عليها لتأييد بدعهم وكسب الأعوان حولهم، فعمدوا إلى الوضع في الحديث، واختلقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فكان مبدأ ظهور الوضع في الحديث منذ ذلك الوقت.
وقد انتدب الصحابة للمحافظة على الحديث، واجتهدوا في ذلك متبعين أقصى وأحكم ما يمكن من وسائل البحث والفحص الصحيحة، ومن ذلك أنهم:
أولاً: عنوا بالبحث في إسناد الحديث وفحص أحوال الرواة بعد أن كانوا من قبل يرجحون توثيق من حدثهم.
أخرج مسلم في مقدمة صحيحه، والترمذي في علل الجامع عن محمد ابن سيرين أنه قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا سمُّوا لنا رجالكم، فيُنْظَر إلى حديث أهل السنة فيُؤْخَذ حديثهم، ويُنْظَرُ إلى أهل البدع فلا يُؤْخَذ حديثهم.
ثانيًا: حث علماء الصحابة الناس على الاحتياط في حمل الحديث عن الرواة، وأن لا يأخذوا إلا حديث من يوثق به دينًا وورعًا، وحفظًا وضبطًا، حتى شاعت عند الناس هذه القاعدة: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم، وبذلك نشأ علم ميزان الرجال، أو الجرح والتعديل، الذي هو عمدة علم الحديث.
فقد تكلم من الصحابة في الرجال، عبد الله بن عباس، وعبادة بن الصامت، وأنس بن مالك، وكان كلامًا قليلاً، لقلة الضعف وندرته آنذاك، ثم تكلم من التابعين سعيد بن المسيب المتوفى سنة (93هـ) وعامر الشعبي (104هـ) وابن سيرين (110هـ) .
ثالثاً: الرحلة في طلب الحديث لأجل سماعه من الراوي الأصل والتثبت منه، وقد وصلنا من أخبارهم ما يدعو إلى العجب، وربما بلغ بهم الأمر أن يرحل الرجل في الحديث الواحد المسافات البعيدة متحملاً ما يصيبه من تعب ومشقة.
ومن ذلك: ما رواه الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه قال: بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي، فسِرْتُ إليه شهرا حتى قدمت عليه الشام.
فإذا عبد الله بن أُنَيْس فقلت للبواب: قل له: جابر على الباب، فقال: ابنُ عبد الله؟ قلت: نعم، فخرج يطأ ثوبه، فاعتنقني واعتنقته، فقلت: حديثاً بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يحشر الناس يوم القيامة - أو قال - العباد عراة غرلا بُهْما. . . ) الحديث.
ورحل أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه رحل إلى عقبة بن عامر يسأله فقال له: حدِّثْنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق أحد سمعه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من ستر على مؤمن في الدنيا ستره الله يوم القيامة) ، فأتى راحلته فركب ثم رجع. رواه أحمد.
فسن الصحابة الرحلة في طلب الحديث للتثبت منه، وسلك التابعون سبيلهم فكانوا يرحلون إلى الصحابة ويسألونهم عن الأحاديث، كما روى الخطيب بأسانيده عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن كنتُ لأسير الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد، واستمر شأن العلماء على ذلك فيما بعد حتى أصبحت الرحلة من ضرورات التحصيل.
رابعًا: ومن الطرق التي كانوا يعرفون بها الوضع والضعف في الحديث، عرض حديث الراوي على رواية غيره من أهل الحفظ والإتقان، فحيث لم يجدوا له موافقًا على أحاديثه أو كان الأغلب على حديثه المخالفة ردوا أحاديثه أو تركوها، إلى غير ذلك من الوسائل التي اتبعوها وميزوا بها الصحيح من السقيم، والسليم من المدخول.
وهكذا لم ينقض القرن الأول إلا وقد وجدت أنواع من علوم الحديث، مردها جميعا إلى نوعين: المقبول: وهو الذي سمي فيما بعد بالصحيح والحسن، والمردود: وسمي بعد ذلك الضعيف بأقسامه الكثيرة.
المصدر: موقع إسلام ويب